اختتاماً لفعاليتها الفكرية “جامعيو طرابلس: يقراون، يبحثون ويكتبون”، أقامت “مؤسسة الصفدي” ندوتها الثامنة حول الشعر بالعربية في أعمال: النقيب المهندس عبد الفتاح عكاري، د. ياسين الأيوبي، د. خريستو نجم، د. أحمد الحمصي والنقيب المحامي رشيد درباس. وقد استمرت الندوة ساعتين من الزمن في “مركز الصفدي الثقافي”، وسط حضور حاشد من المهتمين بشؤون الشعر والأدب، ومن أساتذة جامعيين وطلبة، وممثلي فاعليات ثقافية واجتماعية وتربوية، كما حضر الندوة نائب رئيس “مؤسسة الصفدي” أحمد الصفدي.
بدايةً كلمة لمدير المشروع الدكتور مصطفى الحلوة، استهلها بالقول: “لأن ختامها مسكٌ، فبالشعر، ديوان العرب، نُسدل الستار على فعاليتنا الفكرية مع كوكبةٍ من مبدعينا يحلّقون عالياً في فضاءات الشعر، في وِديانه يهيمون، وهم يقولون ما يُكابدون!”. وقد طرح د. حلوة عدداً من الأسئلة – الإشكاليات لا بد أن يواجهها الشعر العربي بصدقية وواقعية، وهو يعبر راهناً أزمة وجودية ووظيفية في ظل العولمة التي تطغى على كثير من جوانب المشهد الثقافي في بلادنا”. وختم د. حلوة: “إن أعمال الفعالية سوف تضمها دفّتا كتاب يتخذ إسم الفعالية عينها، ولتنتهي هذه التظاهرة باحتفال تكريمي للمبدعين والباحثين، يرعاه وزير الثقافة في نيسان القادم”. وقد أعقب الشهادات التي أدلى بها الباحثون قراءات للشعراء الخمسة أضفت على الندوة أجواء من الحميمية والدفء وصدق الإحساس، أثارت إعجاب الحضور.
حول النقيب المهندس عبد الفتاح عكاري
قدمت د. غادة السمروط شهادة حول الشاعر عكاري مُستقاة من دراسة لها بعنوان “رحلة الشك واليقين”، ارتكزت فيها على دواوينه الخمسة (“لن تمطر السماء لؤلؤاً”، “عندلة”، “رسائل من ماريز”، “الموت ومخاض الغضب”، و”رحيل النسيان”). وفي شهادتها رأت السمروط أن شعر عكاري يتغذى من جهلٍ معرفي، ويستضيء بنور مظلم يثيرهما سؤال الوجود، سؤال الحياة والموت. وأضافت: “إن عكاري شاعر حدسي، يرى الحاضر على ضوء الماضي ويخشى المستقبل. ولقد أجاد في موضوعاته، مزوداً في بنائها بحب كبير، بوعي متقد، بحكمة رصينة، بكلمة غنية وصائبة، سهلة حيناً وعنيدة حيناً آخر، ذات جرس موسيقي هادئ، يوقع في النفس صخب الإعجاب والدهشة، ويحتفي بالتجربة ليسمو بها إلى اعماق الروح”. وعن موضوعة الشك لدى الشاعر، قالت: “أن عكاري يعود ليطرح سؤالاً يغذّيه الشك، فيتساءل عن الجنان وعن السعير، عن حياة ما بعد الموت وما تحمل من ثواب وعقاب، فلا يجد جواباً. اما يقين الشاعر، في مواجهة هذا الشك، فهو ينم عن رجل مؤمن بالله، وهو واحدٌ من (اهل الرقيم)، فإذا بالحقيقة (نور يقذفه الله في الصدر)”.
حول الدكتور ياسين الأيوبي
ثم قدم الباحث مروان الخطيب شهادة حول الشاعر د. ياسين الأيوبي من وحي دراسة وضعها بعنوان “ثنائية العشق للمرأة والأرض في شعر ياسين الأيوبي”، وترتكز على دواوينه الثلاثة (“دياجير المرايا”، “منتهى الأيام”، و”آخر الاوراد”). ومما جاء في هذه الشهادة: “ان الأيوبي يصاهر ويماثل جميع الشعراء والادباء الذين كتبوا في المرأة. اما خصوصيته لهذه الجهة وتميزه فيكمنان في المدى الذي سبح إليه في أشعاره العشقية، ذاك المنتهى إلى انفتاح علوي تغمره رغابُ الذوبان والانسراح النوراني، ثم حلوله في أحضان السرمدية تهجاعاً محروراً بأنغام الترنح وتقاسيم التهادي”. وقد ذهب الخطيب إلى “أن هذا الشعر إنساني النزعة، لطيف التعبير، وليد تجربة كونية ومعاناة طويلة. وهو شعر صادق يستجمع لباب العفوية والانفعال والرؤى في اعتمالات النفس، ليخرج إلى قلوب الناس معششاً فيها من دون استئذان”. وعن المحور الثاني، المتمثل بعشق الأرض والطبيعة، توقف الخطيب عند ذلك التداخل بين هذا الموضوع والمرأة، فتحصّل له إبداع الشاعر، “وكأن عينيه تندمجان معاً في احايين كثيرة لتتجليا بعد ذلك وكأنهما روح واحدة بنصٍ يتحدّر من سلالة واحدة”. وأضاف: “إن عشق الأيوبي للطبيعة جعله يطلق حرباً شعواء على كل الذين يسعون في خراب وفساد الناس والأرض”. وختم بأن “ما ينطبق على المرأة، في عُرف الأيوبي، ينطبق على الأرض والطبيعة لأن الاخيرة إمرأةٌ اخرى!”.
حول الشاعر د. خريستو نجم
ثم تولى الكاتب والإعلامي الياس عاقوري تقديم شهادة حول د. خريستو نجم، مستنداً إلى دواوينه (“قصائد حب”، “في زمن المراهقة”، “زمن العشق خلود الذاكرة”، “من أغاني شهريار” و”الطريق إلى جبل التوباد”). وقد رأى عاقوري “ان نجم هو شاعر الحب والغرام، منذ شبابه حتى اليوم. هو شاعر أشبه ما يكون بـ”قيس”، وأن قصائده قريبة من العُذرية. من هنا كان الشاعر المزمن بخلود حياته، مهما رحلت السنون. وإذا كان الخريف يتوارى وينتهي مع الأيام، فإن الربيع بنظره دائم الزمن في عشقه وغرامه”. ولفت إلى “ان نجم مولع، منذ صباه، بشعر نزار قباني، كون هذا الأخير شاعر الإيقاع الموسيقي. وقد كتب نجم عن نزار دراسة عنوانها “النرجسية في أدب نزار قباني”، ما جعل قباني يقول (صاحبها يطاردني في أدق أحوالي، ومنذ خُلقتُ لحظةً لحظة، وقد يمضي زمن طويل قبل أن تُكتب عني دراسة بهذا العمق والشمول!). وأشار عاقوري إلى “ان تماهي نجم بنزار قباني دفع البعض إلى إطلاق إسم “نزار طرابلس” على شاعرنا”. وأنهى قائلاً: “إن خريستو نجم نشأ، منذ نعومة أظفاره، معجباً بغناء فريد الأطرش، لتعمق هذا الأخير في كثير من الأغاني الحزينة، وقد رآه شاعرنا شبيهاً به في قصائده”.
حول د. أحمد الحمصي
ثم قدمت الجامعية فرح يكن ناجي شهادة رائعة عن الشاعر د. أحمد الحمصي مستوحاةً من دراسة وضعتها بعنوان “الأصالةُ العابرةُ قنطرةَ الحداثة”، استعرضت فيها بداياته الشعرية، ولتتوقف ملياً عند مجموعته “ظلال البحر”، وعند الثانية التي ستصدر قريباً بعنوان “الشعر فاكهة الكلام”. ورأت ناجي “أن الحمصي، على رغم أنه عالم لغوي ونحوي، استحكمت فيه الموهبة الشعرية، فكشفت بنقائها وصفائها حُجب “العلمية” الثقيلة”. وأضافت: “إن أصدق وصف لقصائده انها فاكهةٌ جاءتنا بشكل جديد، ولكن الطعم عربيٌ أصيل لم تشُبه شائبة غربةٍ فكرية او لغوية”. وعن تنوع قصائد المجموعتين، رأت “انها مستمدة من نواحي الحياة المختلفة، فمنها العاطفي الوجداني، ومنها الرمزي، وهي تختزن الحكمة وتنطق بالعبر. ومنها أيضاً ما يعالج قضايا العصر، بعد التأمل في واقع الناس ومعاناتهم، منتقدةً غياب المبادئ والفضائل واستفحال الظلم والشرور”. وعن أسلوبه الشعري، لفتت ناجي إلى “أن الشاعر الحمصي يستخدم اللفظ الموحى ويعوّل على إبداعية اللغة العربية وعلى قوة التعبير الكامنة فيها، مُطّرحاً من الرموز والأساطير ما يُثقل الشعر بالغموض. وقد برع الشاعر في تطويع اللغة واستنفاد طاقات الكلمات في حبكِ صوره الشعرية”. وختمت: “إن الحمصي لم يسع إلى الشعر، بل أن الشعر سعى إليه وآثره على كثير من المدّعين، فحط بين جنبيه رحالهُ في أرض من الشعور خصيبة، ونفس جيّاشة مرهفة”.
حول الشاعر رشيد درباس
ثم اختتمت الندوة بشهادة قدمها المحامي الشاعر شوقي ساسين حول رشيد درباس مستلّةً من دراسة وضعها بعنوان “الشعر راحلةُ الأيام”، مستنداً فيها إلى ديوانيه “همزة الوصل” و”الرمل ديوان النخيل”. وتوقف ساسين عند العديد من ركائز شعر درباس، بادئاً بسلامة اللغة والعروض، حيث رأى “أن شاعرنا حريصٌ على تطهير لغته من الشوائب. وهو يأخذ نفسه بالشدة نفسها في العروض، لدرجة انه لا يُبيح لها استعمال جوازٍ شعري لا تطيب له ذائقته”. وعن الصور الشعرية لديه، رأى “ان درباس كسر كل قيود التقليد في التعبير الشعري، مبنىً ومضموناً، عبر ابتكار صور وترسيخ علاقات جديدة بين المفردات والصيغ، تؤدي إلى خلق حالةٍ فنية موحية، تتجاوز فيها الكلمات اوضاعها القديمة باستعمالها في رموز تبعث في نفس المتلقي دفئاً وانخطافاً”. ولفت إلى “ان الشاعر كثيراً ما يطيب له مزاولة “لعبة الكلمات”، مستعيراً للتعبير عن حالة ما او صورة ما ألفاظاً وصيغاً لها علاقة بالحرف وما يدور في فلكه”. وعن الرمز في شعره، يذهب ساسين، إلى “أن الرموز لدى درباس ليست معلنة، لكنها تحمل في تضاعيفها مفاتيح الدخول إلى أسرارها”. وختم مشيراً إلى تعلق درباس بالتراث والطبيعة. “فمن عين يعقوب مسقطه، حيث تُمرّعُ الخضرة كل يباس، إلى الميناء (طرابلس) في كنف مدرسة مار الياس، تشبّع وجدان شاعرنا من اثنين: الأرض والتراث. وبين موج البحر وموج القصيدة، خشُنت أظافر رشيد درباس، لكن ذوقهُ لدُنَ وحسَّه رقَّ وبيانه صفا”.