في دول الغرب الأوروبي والأمريكي يعمل الموظف والعامل وصاحب المهنة الحرة ما يقارب الثماني ساعات في اليوم، إن لم يكن أكثر، وينال بالمقابل عطلة سنوية تتراوح بين ثلاثة وخمسة أسابيع ليخلد إلى الراحة، والتي يستفيد منها في أغلب الأحيان خلال فصل الصيف. أما في لبنان، حيث معدلات ساعات العمل لا تتعدى الست ساعات يومياً، وبخاصة خلال فصل الصيف، فقد إكتفى المشرّع بمنح الموظف والعامل اللبناني عطلة سنوية لا تتجاوز الأسبوعين بإستثناء العاملين في قطاع التعليم.
ما يلفت الإنتباه هنا هو وجود فئتان إجتماعيتان لا تعملان عادة وبخاصة أثناء فصل الصيف:
* فئة المتقاعدين عن العمل الإلزامي الذين سبق لهم وخدموا في مؤسسات الجيش وقوى الأمن أو قطاع التعليم الرسمي مدة كافية تسمح لهم بالتقاعد عن العمل في عمر لا يزيد عن الخمسين سنة في أغلب الحالات، مع العلم أنهم ما زالوا قادرين على العطاء والإنخراط في الخدمة العامة.
* فئة الشباب والفتيان طلاب العلم في المدارس والجامعات الذين يمضون أكثر أوقاتهم في حالة من الضجر والكسل والضياع مع العلم أن طاقاتهم على العطاء تفوق أحياناً كل التوقعات إذا ما عرف المجتمع وسعى إلى إستغلالها من أجل تحقيق الإنماء المنشود. وإذا كانت التنمية البشرية هي المدخل الطبيعي الإلزامي إلى تحقيق الإنماء المتوازن، فإن هذه الفئة العمرية هي الأرض الفضلى في عملنا وسعينا إلى تنمية المجتمع المحلي
فصل الصيف ليس للراحة فقط
لكن إرتفاع حرارة الطقس خلال فصل الصيف والتي يرافقها إرتفاح في نسبة الرطوبة، غدت حجة يتخذها اللبناني لممارسة هواية الكسل والخمول والركون إلى الراحة الكاملة. لكن فصل الصيف ليس للراحة فقط كما هو شائع، بل هو فصل ككل الفصول، علينا أن نعمل خلاله ونشقى ونزرع ونحصد ونجني ثمار ما زرعناه أيضاً خلال فصول وسنوات سابقة. المزارعون والحرفيون والبناءون يعرفون ذلك. والناشطون الإجتماعيون يدركون ذلك. وقادة الحركة الكشفية ينتظرون فصل الصيف من أجل تأدية دورهم في تربية الناشئة ونشر الوعي بين الأجيال الصاعدة على التعلّق بالأرض وحب الوطن وإحترام الآخر والمحافظة على البيئة. خلال فصل الصيف يعود اللبنانيون جزئياً أو كلياً إلى بلداتهم وقراهم أو يقصدون مناطق الإصطياف الجبليّة هرباً من حرّ الساحل ورطوبته ليجد الجميع أنفسهم في قلب الطبيعة الخلاّبة بعيداً عن حضارة الباطون ذات الأفق المسدود.
صيف هذا العام 2009
خلال فصل الصيف نلتقي بالأحبة والخلاّن الذين حُرمنا من رؤيتهم خلال أيام السنة الباقية خاصة عندما نعلم أن العائلات اللبنانية ذات الأصول الريفية والجبلية نادراً ما تلتقي في ما بينها وإن تواجدت مثلاً في العاصمة بقية أيام السنة بسبب مصاعب العمل والعيش في المدن وضيق الوقت ومتاعب الإنتقال من حي إلى آخر. إذاً، هي عودة إلى الينابيع والجذور بكل ما في الكلمتين من معانٍ وعبر… أي إلى الحديث الهادئ ومراجعة الذات والإستمتاع بسكون الطبيعة في النهار كما في الليل، وإن عكّرته عادة إطلاق المفرقعات السيئة السمعة، مع تقديرنا الكامل لنجاح ولد هنا أو فرحتنا بخطبة إبنة هناك أو عودة مسافر بعد طول غياب هنا وهناك. لكن صيف هذا العام إمتاز بحلول شهر رمضان المبارك الذي أفاض على الصائم وغير الصائم بنوره وسكونه ونعمه وسلامه ليتقرّب الإنسان أولاً من الخالق عزّ وجل وثانياً من الأخ والجار والناس أجمعين.
مطلع كل صيف نعود إذاً إلى بلداتنا وقرانا الجميلة الوديعة لنكتشف كم نحن “مجرمون” بحق ماضينا وحاضرنا ومستقبل أولادنا، ولنجد أن الحرمان المزمن والإهمال المستفحل وفقدان الهويّة الإجتماعية الوطنية… كلها مجتمعة قد فعلت فعلها في تدمير مكوّنات ومقوّمات ما صار يعرف بالمجتمع المحلي. إنّ فوضى الإنتاج والتسويق في قطاع الزراعة وغياب سياسة إنمائية متوازنة بين المناطق على المستويات كافة، وإندفاع اللبنانيين العشوائي في دخول “جنّة” المجتمع الإستهلاكي الذي أعلن أخيراً إفلاسه الكامل.. كلها دفعت بأبناء الريف تدريجياً خلال عقود من الزمن إلى الإنتقال الكثيف والعفوي إلى المدن أوالهجرة إلى الخارج، وبالتالي تفريغ الريف من سكانه الأصليين وزعزعة التوازنات الديمغرافية في كل المجالات.
مؤسسة عصام فارس
هنا لا بد من بدائل وحلول تخفّف من وطاءة وحدّة هذه الظاهرة الإجتماعية الإقتصادية المنتشرة في المناطق كافة وتداعياتها السلبيّة على عمليتي الإستقرار والإزدهار في بلد كلبنان هو بأمس الحاجة إليهما حتى ينهض وينمو ويسترد عافيته ويسترجع دوره الرائد البنّاء في محيطه. والوصفة بسيطة: مؤسسة خاصة راعية داعمة، ومجلس بلدي منفتح متعاون، وناشطون محصّنون إجتماعياً وثقافياً وبيئياً، تضامنوا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلى أن تستفيق الطبقة الحاكمة في لبنان من غفلتها المزمنة وتجاهلها المتعمّد وتحقّق قبل الآخرين عملية “العبور إلى الدولة” العادلة، دولة المؤسسات الفاعلة الراعية لجميع أبنائها “المكلّفين” منهم والمنسيين.
هذا ما فعلناه في مؤسسة عصام فارس على عادتنا في كل سنة متعاونين مع مجلس بلدية بينو قبولا في عكار عندما كُلِّفت للمرّة الثانية الإشراف على تنظيم مخيّم ثقافيّ فنيّ ترفيهي لأكثر من مئة طفل وطفلة تراوحت أعمارهم بين الخامسة والخامسة عشر. وقد إعتمدت من أجل تحقيق ذلك على فريق من المتوّطعات والمتطوّعين الشباب طلاب علم ومعرفة، من أجل تنفيذ برنامج هدف إلى تنمية الحس الإنساني والإجتماعي والبيئي وتطويرالقدرات الفكريّة والمعرفيّة الثقافية والفنية رسماً وأشغالاً يدويّة وغناء ورقصاً.. لدى أطفال وفتيان هم فريسة الضجر وقلّة الإهتمام بهم، يمضون عادة أوقاتهم أمام شاشات التلفاز والألعاب الإلكترونية عندما لا يتوهون في الشوارع والأزقّة كالمشردين. هي دعوة للطفل إلى الخروج من بيته وتقوقعه إلى الحارة ومنها إلى ساحة البلدة ومنها أيضاً إلى الجوار والمحيط… فإلى رحاب الوطن. على هذه الأسس إستضاف المخيّم النائب نضال طعمه إبن بينو الذي شاركنا في حوار مفتوح حول ممارسة الديمقراطية بكل أشكالها، من مسؤولية المواطن الناخب وصولاً إلى واجبات النائب المنتخب وإلتزامه تمثيل كل فئات الشعب اللبناني على السواء، الذين إنتخبوه أو لم ينتخبوه نائباً. كذلك قام أطفال المخيّم بزيارة سرايا البرج، هذا المعلم التاريخي الرائع ومقرّ إقامة النائب الواعد معين المرعبي بهدف لقاء الجار والإطلاع على صفحات بيضاء من تاريخ لبنان الحديث.
المخيم الترفيهي لأطفال بينو قبولا 2009
مخيّم أطفال وفتيان وفتيات بينو قبولا هذا الصيف جمع بين الجد واللعب. رسموا وغنوا ورقصوا وعبّروا عن ذواتهم وتعرّفوا إلى أمور كانوا يجهلونها: إلى بعضهم البعض وإلى الجار القريب والنائب الذي إختلفوا ذات يوم على إنتخابه… وإلى بيئتهم الطبيعيّة الغنيّة خلال تجوالهم في محميّة جبل عصام فارس، وحثهم على المحافظة عليها. تآلفوا عندما شاركوا في كرمس عيد السيّدة وفي مسيرة المشاعل عشية الإحتفال بعيد إرتفاع الصليب، ولعبوا عندما قصدوا مسبح بيت ملات للعائلات، ومارسوا الرياضة على ملاعب نادي بينو الثقافي الرياضي، وتردّدوا مراراً على بحيرة عصام فارس حيث تعرّفوا إلى المبادئ الكشفية التي لا يختلف إثنان على مدى جدواها ودورها الطليعي في تحقيق التنمية البشريّة المستدامة، وذلك منذ 1908 عام إطلاق الحركة الكشفية وفي زمن كان فيه المجتمع المحلي ما زال قائماً على الألفة والتضامن والتعاون بين الناس. وإبتهجوا عندما قدّموا على مسرح نادي الإرشاد والتضامن وأمام حشد من الأهل والأصدقاء، عرضاً لرسوم وأشغال نفذوها وإستعراضاً لأغان ورقصات تعلّموها خلال شهر فقط.
فايز وديع فارس (قائد كشفي سابق، إعلامي ومستشار ثقافي لدى مؤسسة فارس)